كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن قيل لا نسلم أن المعبودين ما تعرضوا لهذا القسم بل ذكروه، فإنهم قالوا: {ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَءابَاءهُمْ حتى نَسُواْ الذكر} وهذا تصريح بأن ضلالهم إنما حصل لأجل ما فعل الله بهم وهو أنه سبحانه وتعالى متعهم وآباءهم بنعيم الدنيا.
قلنا: لو كان الأمر كذلك لكان يلزمهم أن يصير الله محجوبًا في يد أولئك المعبودين، ومعلوم أنه ليس الغرض ذلك بل الغرض أن يصير الكافر محجوجًا مفحمًا ملزمًا هذا تمام تقرير المعتزلة في الآية، أجاب أصحابنا بأن القدرة على الضلال إن لم تصلح للاهتداء فالإضلال من الله تعالى، وإن صلحت له لم تترجح مصدريتها للإضلال على مصدريتها للاهتداء إلا لمرجح من الله تعالى، وعند لذلك يعود السؤال، وأما ظاهر هذه الآية فهو وإن كان لهم لكنه معارض بسائر الظواهر المطابقة لقولنا.
المسألة الرابعة:
ظاهر الآية يدل على أن هذا السؤال من الله تعالى وإن احتمل أن يكون ذلك من الملائكة بأمر الله تعالى.
بقي على الآية سؤالات.
الأول: ما فائدة أنتم وهم؟ وهلا قيل أأضللتم عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل؟ الجواب: ليس السؤال عن الفعل ووجوده، لأنه لولا وجوده لما توجه هذا العتاب، وإنما هو عن فاعله فلابد من ذكره وإيلائه حرف الاستفهام حتى يعلم أنه المسؤول عنه.
السؤال الثاني: أنه سبحانه كان عالمًا في الأزل بحال المسؤول عنه فما فائدة هذا السؤال؟ الجواب: هذا استفهام على سبيل التقريع للمشركين كما قال لعيسى: {أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله} [المائدة: 116] ولأن أولئك المعبودين لما برؤا أنفسهم، وأحالوا ذلك الضلال عليهم صار تبرؤ المعبودين عنهم أشد في حسرتهم وحيرتهم.
السؤال الثالث: قال تعالى: {أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل} والقياس أن يقال ضل عن السبيل، الجواب: الأصل ذلك، إلا أن الإنسان إذا كان متناهيًا في التفريط وقلة الاحتياط، يقال ضل السبيل.
أما قوله: {سبحانك} فاعلم أنه سبحانه حكى جوابهم، وفي قوله: {سبحانك} وجوه: أحدها: أنه تعجب منهم فقد تعجبوا مما قيل لهم لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختص بإبليس وحزبه وثانيها: أنهم نطقوا بسبحانك ليدلوا على أنهم المسبحون المقدسون المؤمنون بذلك فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده وثالثها: قصدوا به تنزيهه عن الأنداد، سواء كان وثنًا أو نبيًا أو ملكًا ورابعها: قصدوا تنزيهه أن يكون مقصوده من هذا السؤال استفادة علم أو إيذاء من كان بريئًا عن الجرم، بل إنه إنما سألهم تقريعًا للكفار وتوبيخًا لهم.
أما قوله: {مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
القراءة المعروفة {أَن نَّتَّخِذَ} بفتح النون وكسر الخاء وعن أبي جعفر وابن عامر برفع النون وفتح الخاء على ما لم يسم فاعله، قال الزجاج أخطأ من قرأ {أَن نَّتَّخِذَ} بضم النون لأن {من} إنما تدخل في هذا الباب في الأسماء إذا كان مفعولًا أولًا ولا تدخل على مفعول الحال تقول ما اتخذت من أحد وليًا، ولا يجوز ما اتخذت أحدًا من ولي، قال صاحب الكشاف اتخذ يتعدى إلى مفعول واحد كقولك اتخذ وليًا، وإلى مفعولين كقولك اتخذ فلانًا وليًا، قال الله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خَلِيلًا} [النساء: 125] والقراءة الأولى من المتعدي إلى واحد وهو {مِنْ أَوْلِيَاء}، والأصل أن نتخذ أولياء فزيدت من لتأكيد معنى النفي، والثانية من المتعدي إلى مفعولين، فالأول ما بني له الفعل، والثاني {مِنْ أَوْلِيَاء} من للتبعيض، أي لا نتخذ بعض أولياء وتنكير أولياء من حيث إنهم أولياء مخصوصون وهم الجن والأصنام.
المسألة الثانية:
ذكروا في تفسير هذه الآية وجوهًا: أولها: وهو الأصح الأقوى، أن المعنى إذا كنا لا نرى أن نتخذ من دونك أولياء فكيف ندعو غيرنا إلى ذلك وثانيها: ما كان ينبغي لنا أن نكون أمثال الشياطين في توليهم الكفار كما يوليهم الكفار، قال تعالى: {فقاتلوا أَوْلِيَاء الشيطان} [النساء: 76] يريد الكفرة، وقال: {والذين كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت} [البقرة: 257] عن أبي مسلم وثالثها: ما كان لنا أن نتخذ من دون رضاك من أولياء، أي لما علمنا أنك لا ترضى بهذا ما فعلناه، والحاصل أنه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ورابعها: قالت الملائكة إنهم عبيدك، فلا ينبغي لعبيدك أن يتخذوا من دون إذنك وليًا ولا حبيبًا، فضلًا عن أن يتخذ عبد عبدًا آخر إلهًا لنفسه وخامسها: أن على قراءة أبي جعفر الإشكال زائل، فإن قيل هذه القراءة غير جائزة لأنه لا مدخل لهم في أن يتخذهم غيرهم أولياء، قلنا: المراد إنا لا نصلح لذلك، فكيف ندعوهم إلى عبادتنا وسادسها: أن هذا قول الأصنام، وأنها قالت لا يصح منا أن نكون من العابدين، فكيف يمكننا ادعاؤنا أنا من المعبودين.
المسألة الثالثة:
الآية تدل على أنه لا تجوز الولاية والعداوة إلا بإذن الله، فكل ولاية مبنية على ميل النفس ونصيب الطبع فذاك على خلاف الشرع.
أما قوله تعالى: {ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَءابَاءهُمْ حتى نَسُواْ الذكر وَكَانُواْ قَوْمًا بُورًا} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
معنى الآية أنك يا إلهنا أكثرت عليهم وعلى آبائهم من النعم وهي توجب الشكر والإيمان لا الإعراض والكفران، والمقصود من ذلك بيان أنهم ضلوا من عند أنفسهم لا بإضلالنا، فإنه لولا عنادهم الظاهر، وإلا فمع ظهور هذه الحجة لا يمكن الإعراض عن طاعة الله تعالى وقال آخرون إن هذا الكلام كالرمز فيما صرح به موسى عليه السلام في قوله: {إِنْ هي إِلاَّ فِتْنَتُكَ} [الأعراف: 155] وذلك لأن المجيب قال: إلهي أنت الذي أعطيته جميع مطالبه من الدنيا حتى صار كالغريق في بحر الشهوات، واستغراقه فيها صار صادًا له عن التوجه إلى طاعتك والاشتغال بخدمتك، فإن هي إلا فتنتك.
المسألة الثانية:
الذكر ذكر الله والإيمان به والقرآن والشرائع، أو ما فيه حسن ذكرهم في الدنيا والآخرة.
المسألة الثالثة:
قال أبو عبيدة: يقال رجل بور ورجلان بور ورجال بور، وكذلك الأنثى، ومعناه هالك، وقد يقال رجل بائر وقوم بور، وهو مثل هائر وهور، والبوار الهلاك، وقد احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة القضاء والقدر، ولا شك أن المراد منه وكانوا من الذين حكم عليهم في الآخرة بالعذاب والهلاك، فالذي حكم الله عليه بعذاب الآخرة وعلم ذلك وأثبته في اللوح المحفوظ وأطلع الملائكة عليه، لو صار مؤمنًا لصار الخبر الصدق كذبًا، ولصار العلم جهلًا ولصارت الكتابة المثبتة في اللوح المحفوظ باطلة، ولصار اعتقاد الملائكة جهلًا وكل ذلك محال ومستلزم المحال محال، فصدور الإيمان منه محال، فدل على أن السعيد لا يمكنه أن ينقلب شقيًا، والشقي لا يمكنه أن ينقلب سعيدًا، ومن وجه آخر هو أنهم ذكروا أن الله تعالى آتاهم أسباب الضلال وهو إعطاء المرادات في الدنيا واستغراق النفس فيها، ودلت الآية على أن ذلك السبب بلغ مبلغًا يوجب البوار، فإن ذكر البوار عقيب ذلك السبب يدل على أن البوار إنما حصل لأجل ذلك السبب، فرجع حاصل الكلام إلى أنه تعالى فعل بالكافر ما صار معه بحيث لا يمكنه ترك الكفر، وحينئذ ظهر أن السعيد لا ينقلب شقيًا، وأن الشقي لا ينقلب سعيدًا.
أما قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} فاعلم أنه قرىء {يَقُولُونَ} بالياء والتاء، فمعنى من قرأ بالتاء فقد كذبوكم بقولكم إنهم آلهة، أي كذبوكم في قولكم إنهم آلهة، ومن قرأ بالياء المنقوطة من تحت، فالمعنى أنهم كذبوكم بقولكم {سبحانك}، ومثاله قولك كتبت بالقلم.
أما قوله: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلاَ نَصْرًا} فاعلم أنه قرىء {يَسْتَطِيعُونَ} بالياء والتاء أيضًا، يعني فما تستطيعون أنتم يا أيها الكفار صرف العذاب عنكم، وقيل الصرف التوبة، وقيل الحيلة من قولهم إنه ليتصرف، أي يحتال أو فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب وأن يحتالوا لكم.
أما قوله تعالى: {وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى:
قرىء {يذقه} بالياء وفيه ضمير الله تعالى أو ضمير الظلم.
المسألة الثانية:
أن المعتزلة تمسكوا بهذه الآية في القطع بوعيد أهل الكبائر، فقالوا ثبت أن {من} للعموم في معرض الشرط، وثبت أن الكافر ظالم لقوله: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] والفاسق ظالم لقوله: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} [الحجرات: 11] فثبت بهذه الآية أن الفاسق لا يعفى عنه، بل يعذب لا محالة والجواب: أنا لا نسلم أن كلمة {من} في معرض الشرط للعموم، والكلام فيه مذكور في أصول الفقه، سلمنا أنه للعموم ولكن قطعًا أم ظاهرًا؟ ودعوى القطع ممنوعة، فإنا نرى في العرف العام المشهور استعمال صيغ العموم، مع أن المراد هو الأكثر، أو لأن المراد أقوام معينون، والدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] ثم إن كثيرًا من الذين كفروا قد آمنوا فلا دافع له إلا أن يقال قوله: {الذين كَفَرُواْ} وإن كان يفيد العموم، لكن المراد منه الغالب أو المراد منه أقوام مخصوصون، وعلى التقديرين ثبت أن استعمال ألفاظ العموم في الأغلب عرف ظاهر، وإذا كان كذلك كانت دلالة هذه الصيغ على العموم دلالة ظاهرة لا قاطعة، وذلك لا ينفي تجويز العفو.
سلمنا دلالته قطعًا، ولكنا أجمعنا على أن قوله: {وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ} مشروط بأن لا يوجد ما يزيله، وعند هذا نقول هذا مسلم، لكن لم قلت بأن لم يوجد ما يزيله؟ فإن العفو عندنا أحد الأمور التي تزيله، وذلك هو أحد الثلاثة أول المسألة سلمنا دلالته على ما قال، ولكنه معارض بآيات الوعد كقوله: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كَانَتْ لَهُمْ جنات الفردوس نُزُلًا} [الكهف: 107] فإن قيل آيات الوعيد أولى لأن السارق يقطع على سبيل التنكيل ومن لم يكن مستحقًا للعقاب لا يجوز قطع يده على سبيل التنكيل، فإذا ثبت أنه مستحق للعقاب ثبت أن استحقاق الثواب أحبط لما بينا أن الجمع بين الاستحقاقين محال.
قلنا لا نسلم أن السارق يقطع على سبيل التنكيل، ألا ترى أنه لو تاب فإنه يقطع لا على سبيل التنكيل بل على سبيل المحنة، نزلنا عن هذه المقامات، ولكن قوله تعالى: {وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ} إنه خطاب مع قوم مخصوصين معينين فهب أنه لا يعفو عنهم فلم قلت إنه لا يعفو عن غيرهم؟
أما قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ في الأسواق} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
هذا جواب عن قولهم: {مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى في الأسواق} [الفرقان: 7] بين الله تعالى أن هذه عادة مستمرة من الله في كل رسله فلا وجه لهذا الطعن.
المسألة الثانية:
حق الكلام أن يقال: أَلاَ أَنَّهُمْ بفتح الألف لأنه متوسط والمكسورة لا تليق إلا بالابتداء، فلأجل هذا ذكروا وجوهًا: أحدها: قال الزجاج: الجملة بعد {إلا} صفة لموصوف محذوف، والمعنى وما أرسلنا قبلك أحدًا من المرسلين إلا آكلين وماشين، وإنما حذف لأن في قوله: {مِنَ المرسلين} دليلًا عليه، ونظيره قوله تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] على معنى وما منا أحد وثانيها: قال الفراء إنه صلة لاسم متروك اكتفى بقوله: {مِنَ المرسلين} عنه، والمعنى إلا من أنهم كقوله: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} أي من له مقام معلوم، وكذلك قوله: {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] أي إلا من يردها فعلى قول الزجاج: الموصوف محذوف، وعلى قول الفراء: الموصول هو المحذوف، ولا يجوز حذف الموصول وتبقية الصلة عند البصريين، وثالثها: قال ابن الأنباري: تكسر إن بعد الاستثناء بإضمار واو على تقدير إلا وإنهم ورابعها: قال بعضهم المعنى إلا قيل إنهم.